بسم الله الرحمن الرحيم "
الحمد لله الذي أنزل القرآن وتكفل بحفظه ورعايته فقال : {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [1]
والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد سيد الأولين والآخرين،
أرسله ليبلغ الناس هذا الذكر ويبينه للعالمين،
فقال سبحانه وتعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} [2]
فكان حفظ القرآن يتضمن حفظ سنة نبيه – - وحمايتها من كيد الوضاعين الكاذبين.
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك و من الأمل إلا فيك و من التسليم إلا لك و من التفويض
إلا إليك و من التوكل إلا عليك و من الرضا إلا عنك و من الطلب إلا منك و من الذل
إلا في طاعتك و من الصبر إلا على بابك و من الرجاء إلا في يديك الكريمتين
و من الرهبة إلا بجلالك العظيم.اللهم تتابع برك و اتصل خيرك وكمل عطاؤك
و عمت فواضلك و تمت نوافلك وبر قسمك و صدق وعدك و حق على أعدائك
وعيدك ولم يبقى لي حاجة من حوائج الدنيا هي لك فيها رضا و لي فيها صلاح
إلا قضيتها و أعنتني على قضائها يا أرحم الراحمين.
وبعد :
فهذا بحثي الفصلي لمادة علوم الحديث ،
والذي أتناول فيه موضوع " جهود العلماء في مقاومة الوضع " ،
حيث قسمت البحث إلى بابين ،
الباب الأول
يتناول التعريف بالحديث الموضوع،
وعن عبارات العلماء في التعريف به ،
وعن مصادر الحديث الموضوع ،
وعن عقوبة الوضع في الحديث ،
وعن توبة الوضاعين ،
وعن حكم رواية الحديث الموضوع ،
وعن أسباب الوضع في الحديث النبوي الشريف ،
وعن حكم العمل بالحديث الموضوع،
ثم الباب الثاني
وقد تحدثت فيه عن جهود العلماء في مقاومة الوضع ،
وقد قسمت هذا الباب إلى خمسة فصول،
الفصل الأول
يتحدث عن جمع الأحاديث الثابتة ،
والفصل الثاني
يتحدث عن الاهتمام بالإسناد ،
والفصل الثالث
يتحدث عن مضاعفة النشاط العلمي في قواعد الحديث ،
والفصل الرابع
يتحدث عن نقد الرواة وتتبع كذب الوضاعين،
والفصل الخامس
يتحدث عن التأليف في الوضاعين،
والفصل السادس
يتحدث عن التأليف في الموضوعات،
ثم ختمت بأهم ما تم التوصل إليه من خلال هذا البحث،
ونسأل الله التوفيق والتيسير في هذا العمل،
وأحب أن أنوه هنا أنني استفدت كثيرا في بحثي هذا مما كتبه الدكتور عبد الله بن ناصر الشقاري الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بالرياض
في بحثه الذي سماه " الآثار السيئة للوضع في الحديث النبوي وجهود العلماء في مقاومته "
الباب الأول :
مباحث تتعلق بالحديث الموضوع
الحديث الضعيف لغة واصطلاحا :
أ- لغة : اسم مفعول من وضع الشيء يضعه - بالفتح - وضعاً، وتأتي مادة (وضع)
في اللغة لمعاني عدة منها: الإسقاط، الترك، الافتراء والإلصاق [3].
ب- أما في اصطلاح المحدثين: فقد عرفه ابن الصلاح بقوله : هو المختلق المصنوع [4]،
وعرفه غيره بأنه هو : ما نسب إلى الرسول اختلاقا وكذباً مما لم يقله أو يفعله أو يقره [5].
التعريف بالحديث الموضوع : الموضوع شر الحديث الضعيف جملة وتفصيلاً ،
وقد جعله العلماء آخر درجات الحديث الضعيف،
وإنما جعلوه من درجاته لأجل التقسيم المعرفي وبحسب إدعاء واضعه،
وإلا فهو ليس من أنواع الحديث أصلاً. عبارات العلماء في التعريف بالحديث الموضوع
والإشارة إليه :
1- التصريح بوضعه فيقولون : موضوع، باطل، كذب.
2- قولهم في الحديث : لا أصل له، لا أصل له بهذا اللفظ، ليس له أصل.3
- قولهم في الحديث : لا يصح، لا يثبت، لم يصح في هذا الباب شيء.
مصادر الحديث الموضوع :
أ - قد يخترعه الواضع من نفسه ابتداءً، وينسبه إلى الرسول ،
وبعرف ذلك : إما بإقراره أو ما ينزل منزلة الإقرار : كأن يدعو الحديث إلى مبدأ يدعو
إليه الوضاع، أو تدل على ذلك قرائن الأحوال.
ب- قد يأخذ الواضع كلام غيره فينسبه إلى النبي ،
ويكون الموضوع إما من كلام الصحابة أو من كلام التابعين أو بعض قدماء الحكماء..
ونحو ذلك [6].
ج- قد يهم الراوي فينسب كلام الغير إلى النبي عن غير قصد وتعمد للوضع
مثل "ومن كثرت صلاته في الليل حسن وجهه في النهار" [7]،
ولذا عده بعضهم في حكم المدرج [8].
حكم الوضع في الحديث النبوي وعقوبة الوضاعين في الآخرة :
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم : "وقد أجمع أهل الحل والعقد على تحريم الكذب
على آحاد الناس، فكيف بمن قوله شرع وكلامه وحي والكذب عليه كذب على الله تعالى،
: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} [9] " [10].
وقد بين النبي حكم وضعه، وتوعد بالعقاب الشديد والعذاب الأليم لمن فعل ذلك،
حيث قال : "حدثوا عني ولا حرج، بلغوا عني ولو آية، إن كذباً علي ليس ككذب على أحد ،
ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" [11] وقد حكي عن بعض الحفاظ
أنه قال: "لا يعرف حديث اجتمع على روايته العشرة المبشرون بالجنة إلا هذا،
ولا حديث يروى عن أكثر من ستين صحابيا إلا هذا" [12].
عقوبة من روى الحديث الموضوع في الدنيا :
أما عقوبة من روى الحديث الموضوع في الدنيا
فقد أجاب ابن حجر الهيتمي المكي على سؤال ورد إليه ونصه كالتالي :
لنا إمام يروي أحاديث لا يبين مخرجيها ولا رواتها فما الذي يجب عليه؟ فأجاب:
" من فعله وهو ليس من أهل المعرفة بالحديث، ولم ينقلها عن عالم بذلك، فلا يحل له
ومن فعله عزر عليه التعزيز الشديد.. ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه "
هذا فيمن روى حديثاً مجهول الحال فضلاً عن أن يكون موضوعاً،
أما عن الموضوع بالذات : فقد كتب البخاري على ظهر كتاب ورده فيه سؤال عن حديث مرفوع
وهو موضوع، فكتب "من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل" .
توبة الواضع وحكم روايته بعدها :
لا خلاف بين العلماء أن توبة الواضع مقبولة، فمن تاب تاب الله عليه
{ومن تاب وآمن وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا} [13]
ولكن مع قبول توبته هل تقبل روايته أم لا ؟
يرى الإمام أحمد وأبوبكر الحميدي شيخ البخاري وغيرهم أنه لا تقبل روايته أبدا،
قال أبو بكر الصيرفي : "كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد
لقبوله بتوبة تظهر" [14]، واختار النووي القطع بصحة توبته وقبول روايته كشهادته،
وحاله كحال الكافر إذا أسلم [15].
حكم رواية الحديث الموضوع :
اتفق العلماء على تحريم رواية الحديث الموضوع، فلا تحل روايته لأحد علم حاله وعرف
أنه موضوع، إلا مبينا حاله ومصرحاً بأنه موضوع، يقول الإمام مسلم :
"إن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها
من المتهمين، أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه..
وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع، والدليل على أن الذي قلناه
هو اللازم دون غيره، قول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } [16]
وقوله: {ممن ترضون من الشهداء} [17] فدل بما ذكر من الآيتين أن خبر الفاسق
ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة " [18].
أما من السنة فها هو يصرح بذلك في حديثه المشهور :
"من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" [19]،
وكفى بهذا الوعيد الشديد في حق من روى حديثاً يظن أنه كذب، فضلاً عن
أن يروي ما يعلم كذبه ولا يبينه. ولاشك أن من روى حديثاً موضوعاً فلا يخل
و من أحد أمور ثلاثة :
إما أن يجهل أنه موضوع،
وإما أن يعلم بوضعه بواحد من طرق العلم به،
وهذا إما أن يقرن مع روايته تبيان حاله، وإما أن يرويه من غير بيان لها.
فأما الأول: وهو من يجهل أنه موضوع، فلا إثم عليه إن شاء الله [20]،
وإن كنا نعتقد أنه مقصر في البحث عنه، لكن لا يؤمن عليه العقاب في تركه البحث
عن حال ما يحدث به، لاسيما وقد قال : "كفى بالمرء إنماً أن يحدث بكل ما سمع" [21].
وأما الثاني: وهو من يعلم وضعه ويبين حاله فلاشيء عليه، إذ قد أمن ما كان يخشى منه
وهو علوقه في الأذهان منسوباً إلى الرسول
أما إذا كانت روايته له قاصداً بها إبانة حاله،
فهذا مأجور لنفيه الدخيل عن الحديث الشريف وتنبيه الناس عليه،
فهو من عدول خلف الأمة ومن خيارها الذين امتازوا عمن سواهم بأنهم ينفون
عن حديث رسول الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وأما الثالث: وهو من رواه من غير بيان لحاله مع علمه بأنه موضوع فهو مأزور وآثم،
سواء ذكر إسناد الموضوع أم لا، إذ لا يكتفى بإيراد الإسناد في هذا الزمان، بل لابد
من التصريح بأنه موضوع وكذب على الرسول ، فذكر الإسناد وعدمه سواء،
يقول السخاوي : "ولا تبرأ العهدة في هذه الأعصار بالاقتصار على إيراد إسناده
- أي الموضوع - لعدم الأمن من المحذور به، وإن كان صنعة أكثر المحدثين
في الأعصار الماضية" [22] وهذا في عصر السخاوي في القرن التاسع فما
بالك بعصرنا الحاضر ؟! فقد كانت طريقة الاكتفاء بالإسناد معروفة لدى القدماء،
لأن علماء عصرهم يعرفون الإسناد، فتبرأ ذمتهم من العهدة بذكر السند،
أما عصرنا هذا فقد سرت العدوى فيه من إضاعة الإسناد إلى إضاعة المتون،
ولا حول ولا قوة إلا بالله.