]عقوق الآباء للأبناء..
ظاهرة منتشرة فى عصرنا
على الرغم من عدم انتباه الكثيرين لها، فإن عقوق الآباء للأبناء ظاهرة
قديمة، غير أنها تأخذ صورا وأشكالا شتى. ففيما يطالب كل الآباء أبناءهم بأن
يبروهم ويعاملوهم بالحسنى، وتنطلق دعاوى العلماء والشيوخ والدعاة محذرة
الأبناء من عقوق آبائهم، لا يلتفت أحد من هؤلاء جميعا إلى قضية حقوق
الأبناء على آبائهم. بينما يصرخ العديد من الأبناء شاكين منددين بعقوق
آبائهم لهم.
وقد آن الأوان أن نسمع للأبناء بعيدا عن سلطة بعض الآباء الذين نسوا دورهم
في الحياة، وبالقطع لا ينسحب هذا الحكم على جميع الآباء، فمنهم البار
ولكنهم قليل، وكثير منهم من يعق ولده، وهو ما جعلها ظاهرة موجودة في
مجتمعاتنا...
فتحكى احدى الفتيات وتقول :
"ولدت في أسرة لا تحب إنجاب البنات؛ قاموا معي بأشد أنواع القسوة من الضرب
والإهانة، كان لي أخ يصغرني بثمانية سنوات، فكان يتحكم في، كان يضربني
ويحاسبني ولا أحد يكلمه. وعندما أتكلم وأحتج على ما يحدث معي يتم ضربي
وإهانتي؛ مما يجعلني أتكلم معه بقسوة محاولة مقاومة هذا الظلم.
الحنان المفقود
وتقول
فتاة اخرى ، وكان من المفروض أن تكون في الفرقة الرابعة، غير أن معاملة
البيت لها كانت السبب في تأخرها في الدراسة حسبما ترى هي.
وتعبر فتاة عن عقوق أمها لها فتقول:
ما شعرت يوما بحنان الأب والأم؛ فالأم لاهية في شئون البيت والعمل، وكذلك
الأب لا يسأل عني، كنت أتمنى أن يكون لي أب وأم، فهما موجودان معي، لكنهما
غائبان دائما".
وتقول فتاة اخرى ، وتتعجب من رفض والدها من تدينها، وتحكي عن نفسها قائلة:
"الحمد لله... أنا ملتزمة، ولدت في أسرة لا تعرف أي نوع من أنواع الالتزام.
كان أحب إلي والدي أن أقول له: أنا سأذهب إلى النادي ولا أقول له: إني
ذاهبة إلى مسجد.
وعندما أحتج على هذا يتم ضربي وسبي، فكنت أكذب لكي أنزل إلى المسجد أو أحضر
درس علم، وأقول إنا ذاهبة إلى النادي، أو إني سأذهب إلى إحدى صديقاتي
نتنزه وسأرجع متأخرة. ليس هذا فقط، بل عندما يتقدم لي شاب ملتزم يتم رفضه
وطرده، لأنه ملتزم".
وتجد فتاة تقول أن الحنان لدى أمها دون والدها، لكنها فقدت أمها بعدما
ماتت، ولم يبق إلا الوالد الذي لم ينجح أن ينشئ حوارا بينه وبينها، فهو
دائم الصراخ فيها، شديد العصبية معها، بل تكاد الفتاة" تبكي حين تذكر لشبكة
"إسلام أون لاين.نت" أن أباها لم يقبلها مرة في العمر.
والأمر ليس حصرا على البنات، فهذا شاب" طالب بكلية الطب يبث همومه إلينا فيقول:
"أنا شاب نشأت في أسرة لا أرى فيها أبي كثيرا، فهو كثير السفر، كل همه أن
يأتي بالمال، اشترى لنا شقة في مكان مميز، واشترى لي سيارة. كل شيء أريده
معي، غير أبي، تعرفت على أصحابي، ألهو وأعبث معهم، أسهر الليالي، أنجح في
دراستي "بالعافية"، غير أني سئمت الحياة، كرهت الغنى، ليتني كنت فقيرا ومعي
أبي".
وهذه نماذج نعتبر أنها غيض من فيض، وقليل من كثير، ولو كشف الغطاء عن عقوق الآباء لأبنائهم لرأينا عجبا..
لغة الحوار
يعتبر
الداعية الكبير الدكتور عبد الصبور شاهين هذه الظاهرة انتكاسة للفطرة ،
فعندما يجد الأبناء الآباء لا وظيفة لهم في الحياة، فقد يصل هذا إلى حد
الكره والرفض لهم. وإن كان الله تعالى قد طالب الأبناء بالدعاء لآبائهم كما
قال تعالى:
{وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} (الإسراء:24).
فأين هذه التربية لكي يرحمهما الله؟
هؤلاء آباء عقوا أبناءهم، والعقوق هنا مختلف، فالمعروف عقوق الأبناء
للآباء، ولكن ما يحدث العكس. لذلك يصدق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليعن ولده على بره". فالمطلوب من الأب
إعانة ولده على بره؛ وإلا فإنه سيحاسب على عقوقه لولده، كما يحاسب ولده على
عقوقه.
وترفض الدكتورة منى الفرنواني- أستاذة علم الاجتماع بكلية البنات جامعة عين
شمس بمصر أن ما يحدث من الآباء للأبناء عقوق، بل هو نوع من سوء المعاملة.
وتضيف: من أهم أسباب سوء المعاملة أن كثيرا من الناس غير راغبين في الإنجاب
مما يؤثر على سلوكهم مع أبنائهم، وأن بعضهم يرى أن الأبناء يتربون بدون
أحد، فالدنيا تربيهم، ولا حاجة لهم في أن يتعبوا أنفسهم، وأن بعضهم مشغولون
بمشاغل الحياة من الطعام والشراب، ولا وقت عنده للاهتمام بعملية التربية،
وأسباب اجتماعية أخرى.
وتشير الدكتورة الفرنواني إلى أن التربية الآن كثيرا ما يغلب عليها انعدام
لغة الحوار بين الآباء والأبناء، وسادت لغة الأمر الواجب تنفيذه بدون
مراجعة، وصار الوالد في البيت هو "سي السيد" كما صوره نجيب محفوظ في بعض
رواياته. ولكن من المهم أن يسمع كل منهما للآخر، فالزمن غير الزمن، والجيل
غير الجيل، واللغة غير اللغة، وعند هذا الاختلاف يكون الحوار والتفاهم
والسماع والإقناع من أهم وسائل التربية الحديثة.
دوافع العقوق
وحتى
يمكن الوصول إلى حلول مناسبة لهذه القضية، فسنحاول خلال هذه السطور رصد
دوافع سوء معاملة الآباء للأبناء والتي جاءت على النحو التالي=
الانفتاح على العالم في كافة الجوانب الثقافية والاقتصادية والقيمية: وهذا
له أثر على ظهور أنماط وأساليب لا تتفق مع قيم آبائنا الأخلاقية. ومن هنا
يأتي ما يسمى بالصراع بين الأجيال، كما تشير الدكتورة سهير العطار في
كتابها "علم اجتماع عائلي".
الخوف الشعوري واللاشعوري:
أما الدكتور وائل أبو هندي- الأستاذ المساعد للطب النفسي بجامعة الزقازيق،
فيرى أن هذه الظاهرة تعود غالبا إلى نوعين من الدوافع، دوافع شعورية،
ودوافع لا شعورية. ففي النوع الأول: يسيطر خوف الآباء من التغيرات الحاصلة
في المجتمع علي طريقة التعامل مع الأبناء. أما في النوع الثاني فيظهر خوف
فقدان السيطرة؛ فالشاب الذي يكبر يمكن أن يكشف عن بعض نقاط الضعف في والده
الذي لم يحب أن يعرفها ابنه عنه.
التغيرات المتلاحقة في كافة أوجه النشاط الإنساني في المجتمع وما يصاحبه من
تغيرات في القيم والاتجاهات والعادات: فلا شك أن لهذا أثره على أداء
الأسرة لدورها التربوي والأخلاقي؛ إذ إنها تواجه العديد من التيارات
الفكرية التي تتناقض مع القيم التي يعمل الآباء على دمجها في شخصية
أبنائهم. وهذا ما حدث في حالة الفتاة الملتزمة خوف أبيها من الاندماج في أي
تيار إسلامي ولهذا نجد التشدد في المعاملة عليها.
زيادة المتطلبات الأسرية نتيجة الانفتاح علي العالم: وتدني المستوى
الاقتصادي للأسرة يلجأ الآباء إلى السفر لتوفير متطلبات أبنائهم المادية؛
وينسوا أهم متطلب وهو الحاجة المعنوية للأبناء كما يرى. عبد الباسط عبد
المعطي في كتابه "نظرية في علم الاجتماع". وهذا ما حدث مع الشاب الذي فقد
أباه نتيجة لسفره بالخارج.
خروج المرأة لمجال العمل أدى إلى تغير في توزيع الدوار بين أفراد الأسرة:
فبعد أن كان الأب مسئولا على الإنفاق في الدور الأول والأم مسئولة عن
التربية، أصبح دور التربية يقوم به مؤسسات وحضانات؛ فبالتالي فقد الابن لغة
الحوار مع أهله، حسب رؤية الدكتور حسن الخولي في كتابه "علم اجتماع
المرأة".
ورغم تلك الدوافع التي جعلت الأسرة تفقد جزءا كبيرا من وظيفتها، وهي
التربية، مما نتج عنه عقوق الآباء للأبناء، فتبقى المشكلة كما هي، فهل يعي
الآباء الخطر الذي يحيط بهم، أم يستسلموا لدوامة الحياة، وعواصف العولمة
التي تجتاح مجتمعاتنا؟!، عليهم أن يختاروا.. إما المقاومة وإما الاستسلام[/size]