السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

عصفور النافذة

تجاوز السبعين من عمره بقليل , كل من حوله من الأحباب والأقارب والمعارف والأصدقاء إختفوا تماماً
من حياته .. واحداً تلو الأخر . شريكة حياته خطفها المصير المُقدر المحتوم
في ليلة مظلمة من ليالي الشتاء البارد الحزين . ربما منذ عام , ربما منذ بضع سنين .
لا يهم الزمن .. ولا يهم السكن .
. ضاع الزمن والسكن .. ترك منزله البسيط المتواضع , وسريره النحاسي القديم
, وفِراشه الدافئ الوثير , وكتبه القديمة الكثيرة , وأتى إلى هنا .

يطلقون على هذا المكان الكئيب دار الضيافة !! .. حيث تختفي معالم الدار .
. وصفات الضيافة . إنها حفرة عميقة , أو مقبرة فسيحة , تجمع فيها كل ألوان و أشكال البشر .
. كل من بلا أهل أو صديق أو ولد .
ولكنه منهم , وليس منهم .. لا يُقر , ولا يعترف .. " أنا لىّ أقارب و ولد .. إبني الأكبر هاجر وتركني في
رعاية إبني الأصغر و حماية الله و الأم و الجار .
إبني الأصغر شغلته متاعب الحياة و الزوجة و الأبناء . عاش معي في منزلي ,
حتى رحلت رفيقة عمري , فضاق بي و بوجودي معه و صرخ من مشاكلي الصحية . حررت
نفسي من قيود الأوامر و النواهي من إبني و زوجته, بالبقاء طوال اليوم خارج
المنزل .. حتى يقهرني التعب و يهزمني الإرهاق .. فأعود متسللاً كل يوم بعد
منتصف الليل , إلى غرفتي .. لأنام وحيداً .. فلا أنام ".

كان مناسباً أن يستمع إلى نصيحة الجيران , و إصرار الإبن و الأقارب .. في
الدار ستلقى العناية و الرعاية .. ستعيش مع أقرانك و أمثالك , من كبار السن
, و فاقدي القدرة على الحياة .
ماذا تفيدك أموالك ؟ .. ماذا تبقى من أحلامك ؟
تمر الأيام .. بل الأسابيع و الشهور .. ولا أحد يسأل عنه . خادم الغرفة , جامد الوجه
, عنيف الحركات , لا يتكلم , لا يبتسم . عامل المطبخ .. رجل طيب ولكنه يعتذر و يأسف على كل شئ .
. هذه هى الأوامر . طعام بلا مذاق أو رائحة .. بلا ملح أو حلوى .. كل شئ مر .
. لا شاي , لا قهوة , لا سكر .. كله منكر !! .

في الصباح الباكر لأحد الأيام , إستيقظ على صوت عصفور يدق بمنقاره من خلف زجاج النافذة .
. دقائق قليلة مرت .. دخل عامل الغرفة ليخبره أن زيارة في إنتظاره .
كان الإبن الأكبر ينتظر في الردهة . تعانقا .. وبكى الأب .. طلب من إبنه الجلوس فإعتذر .
. طائرتي ستقلع بعد ساعة واحدة .. آسف مضطر للإنصراف .
. وضع في جيب والده حفنة قليلة من الأوراق المالية , و انصرف ..
في اليوم التالي .. وفي نفس الموعد في الصباح الباكر ..
إستيقظ على دقات منقار العصفور على زجاج النافذة . وبعد دقائق معدودة
, دخل خادم الدار يخبره بأن نجله في إنتظاره .
إحتضن إبنه الأصغر في لهفة .. وقبل أن يسأله عن زوجته و أولاده , بادره الإبن بطلب مساعدة مالية عاجلة ,
وأنه يعلم أن أخاه الأكبر ترك له بعض المال بالأمس . تلقى الابن المال من أبيه, و اختفى في لحظات .

أصبح عصفور النافذة صديقه الوحيد .. يتعمد كل يوم أن يختلس بعض حبات الأرز من على مائدة الغذاء
, يضعها في مظروف صغير يصنعه من ورق الصحف , ويخبئها في جيب بنطاله .
. ينظر عن يمينه و يساره خشية إفتضاح أمره .. وفي المساء ,
وقبل أن ينام يضع حبات الأرز على حافة النافذة لصديقه الوحيد .
. في الصباح الباكر يأتي العصفور ليلقي عليه تحية الصباح .. يفتح النافذة .
. و يتحدث مع عصفوره الجميل ,
ويرد عليه التحية . وأصبح العصفور أمله الوحيد المنتظر في الحياة , الذي يأتي كل يوم
, من أجله هو فقط , ليلقي عليه تحية الصباح .

مرت الأيام و الشهور , و أُغلقت النافذة تماماً ..
ولازال العصفور يأتي كل يوم ليلقي تحية الصباح على زجاج النافذة .
. بدون حبات الأرز .. وبدون إنتظار لرد التحية .

إنتهى .


كم هذه الحياه غريبه ابناء تتعب بتربيتهم يتركونك ويرحلون

واذ تذكروك فـ اعلم لمصالحم الشخصيه

وهذا الطائر الذي لم تقدم له شئ سوى عدد قليل من حبات الارز وهو الى الان يزور تلك النافذة

دمتم برضى الرحمن